منظمة القلم الدولية تنشر قصص قصيرة لأولِغ سينتسوف
ثلاث قصص قصيرة
تأليف: أولغ سينتسوف
وصيَّة
نحن جميعاً سوف نموت. وأنا، للأسف، لست مستثنى. نودُّ جميعاً أن نحيا مدَّة أطول قليلاً، وهنا أنا، لحسن الحظ، لست مستثنى أيضاً. لا، لا أرغب بإطالة أمد عمري رغبة في أن أحيا مائة عام، لأمضي الربع الأخير منه أجرُّ كياني الهرم على آلات شتَّى وعقاقير. أريد أن أحيا حياتي الشَّابة الزَّاخرة لمدة أطول قليلاً، كي أستوفي المتعة من الحياة ولأمنح المتعة للآخرين، كي أمشي، أو حتى أفضل، كي أجري، وأنام ليلاً أو لا أنام، وأريد أن أكون الشَّخص الذي يقرر كلَّ هذا، وليس جسمي وأطبائي.
هذا هو نوع الحياة التي أودّ أن أحياها لمدة أطول قليلاً. لكنه ليس ممكناً. نحن جميعاً إلى فناء. بعد الموت، سوف نتحول جميعاً إلى أكوام من اللحم المتحلل، مدفونة على عمق عدَّة أمتار تحت سطح الأرض. سيأكلنا الدُّود، ولسوف يزور أقاربنا البارون قبورنا، ترتسم على وجوههم سيماء الحزن، يقفون أمام الصَّليب أو شاهدة القبر، ينظرون إلى صورنا، ناسين كلياً أنَّ الصُّلبان مغروسة عند قدم الفقيد، وبالتالي فإن الصُّحبة النَّائحة جميعهم يقفون الآن عند رأسه، ويحدِّقون بحنان نحو الصُّورة المحفورة في حجر الغرانيت.
ثم سوف يحصلون على مؤونتهم ويسرفون في الشُّرب، ويحرصون على أن يحصل كل واحد على شرابه، بمن فيهم الفقيد، الذي لن يكون قد بقي منه الكثير في ذلك الحين، ولسوف تتفتح الزهور في كل مكان. رثاء وخرافة، شعائر دينية-وثنية عديمة المعنى وتمسُّك شديد بالتقاليد. لا أريد أن يطأ الناس رأسي حتى بعد مماتي، ولا أريد لأطفالي وأحفادي أن يتذكرونني كصورة على لوح من حجر الغرانيت. لا أريد أن يسهر أحد على قبري. عموماً أنا لا أحب لفت الأنظار، ليس الآن، وبالتأكيد ليس بعد مماتي. لا أريد قبراً.
عندما كنت طفلاً لم أتجاوز الرابعة من عمري، ذهبت إلى جنازة جدِّي. عادة لا يتذكر الأطفال أنفسهم في ذلك العمر الطَّري، وفقط بين حين وآخر يتذكرون الأحداث الأكثر أهمية من تلك الفترة. لكني أتذكر تلك الجنازة. لا أتذكر الكثير، لكني أتذكر الأمر الرئيس: أنا واقف عند حافَّة القبر على كومة من القذارة مع أقاربي. من ثم بعد الجنازة، اندهشت لاكتشافي أنهم سوف لن ينبشوا القبر ليخرجوا جدي ثانية، وأنه مات وهذا كل ما في الأمر، إلى الأبد. سحابة عهد طفولتي كاملاً كان يراودني دوماً الكابوس نفسه: في المساء أو خلال الليل، كنت أرى قبراً أسود أنزل فيه جسد في كفن أبيض. كان جثمان جدي، لكني تخيلت أنه أنا، وعرفت أنه سوف يحدث عاجلاً أم آجلاً. لا تصحب أطفالك إلى جنازة قط.
في طفولتي، كنت أخشى الموت. الآن أنا لست بخائف-الآن أعرف أني سوف أموت. في طفولتي، كنت أخشى من القبر الأسود، لكن الآن حسبي أني لا أرغب بالاستلقاء فيه.
نحن جميعاً إلى فناء. كل واحد على طريقته. البعض سوف يموتون بهدوء، كما لو أنه إغلاق باب غرفة طفل غطَّ لتوه في النَّوم. آخرون سوف يموتون وهم ينتحبون ويعانون كما يحدث أثناء الولادة. لا أعرف كيف سأموت، لكني قطعاً لا أرغب بأن أموت رجلاً مسناً عاجزاً في السَّرير محاطاً بأقارب متثائبين.
سُئل رجل ذات مرة كيف يفضل أن تكون ميتته، فأجاب: "وهتاف الابتهاج "هورا!" على شفتي، بندقية مقذوفة على كتفي، وفم مليء بالدَّم". أحب ذلك أيضاً-إنه جميل، رجولي. لكن الأمور لا تحدث بذلك الشَّكل. الأبطال فقط يموتون بشكل جميل في الأفلام والكتب. في الحياة الحقيقية، يتبولون الدَّم في سراويلهم، يصرخون من الألم ويتذكرون أمهاتهم.
لا أريد قبراً. أريد أن أرمَّد. لا، ليس على مشعلة نار تفتيش ما، بل في محرقة بسيطة. مرمَّداً، وأن ينثر الرماد على البحر. البحر الأسود لو أمكن ذلك، وفي فصل الصَّيف، حيث تكون الشَّمس ساطعة مع هبوب الرياح المنعشة. لكن حتى إذا كان الفصل خريفاً وكانت تمطر، هذا أيضاً ليس في غاية السَّوء. لن أطلب منكم انتظار قدوم فصل الصَّيف إذا قضيت نحبي في شهر تشرين الثَّاني. وإلا سوف يكون لديكم ضيوف يسألون:
"ماذا لديكم في تلك المزهرية هناك؟"
"إنه جدنا، هو ينتظر قدوم الصَّيف".
يجب أن تذهب المزهرية أيضاً إلى البحر، بالمناسبة، لا حاجة إلى رُقيتها. وإلا سوف يسأل ضيوف آخرون في تلك الغرفة نفسها بعد عام:
"ماذا لديكم في تلك المزهرية هناك؟"
سوف يعلن الأقارب بمهابة وهم ينهضون على أقدامهم: " كان جدي في تلك المزهرية".
في تلك الحالة، لماذا لا نعلِّق جواربي وثيابي الدَّاخلية حول المنزل-جواربي المفضلة وتلك التي ارتديتها مؤخراً؟
أريد أن أرمَّد. أن أتحول إلى رماد. وأن ينثر الرماد في مهب الريح. على البحر. ومن الأفضل أن يكون في فصل الصَّيف، بالتأكيد إذا فارقت الحياة في الصَّيف. فقط تذكروا أن تلقوا بالرماد في مهب الريح بعيداً عن المركب، كي يتناثر على البحر وليس على المركب، لذا ثمة حفيد ممتلئ الخدين (واضح الشَّبه بجده) فيما هو يكنس البقايا، سوف لن تنتابه الرغبة بالقول: "لا شيء سوى المتاعب مع ذلك الرجل الهرم!"
دعوا الريح تحمل رفاتي إلى البحر. لكن إذا كانت تمطر فلا بأس. سوف يقولون جميعاً: "ذلك يعني أننا ندفن رجلاً صالحاً، طالما أنها تمطر". لكنكم لا تدفنون-أنتم تنثرون يا أصدقاء، أي أنكم تنفخون!
وإذا كانت تمطر والتصق الرماد بالجرَّة قليلاً، ذلك حسن أيضاً. حقيقة، ذلك الحفيد ممتلئ الخدين نفسه، سوف ينظر في الجرة، يرى قليلاً مما بقي من الرماد ويقول: "نعم، جدي لا يزال عالقاً!" لكن ذلك حسن، فقط ارموا الجرة في البحر أيضاً. فلا يبقى شيئاً. لا شيء على الإطلاق. مجرد ذكرى. وما صنعته. وأصدقائي وأنتم. من ثم سوف أكون دوماً معكم.
سيرة ذاتية
ولدت يوم اثنين في الثَّالث عشر من الشَّهر. أظن أني لهذا السبب حظيت بمثل هذه الحياة المرحة. لم تتميز طفولتي عن أي طفولة أخرى، عهد سعيد. نشأت في قرية، في عائلة شبه متعلمة: كانت أمي مُدرسة حضانة، والدي سائق. لم نمتلك الكثير من المال، لكن لا أملك إلا ذكريات طيبة. أبليت بلاء حسناً في المدرسة، كنت متفوقاً في صفي. قرأت كثيراً. أدَّيت فروضي المنزلية، لكن لم أكن مجداً في دراستي، تدبَّرت أموري بذاكرة جيدة وعطش إلى المعرفة. كنت غريباً في صفي. مهزولاً. تعرضت للضرب.
أصبت بنزلة برد شديدة عندما كنت في الثَّانية عشرة من عمري. أدَّت إلى مضاعفات في ساقيّ، التهبت مفاصلي وأصيبت ساقيَّ بالشلل. بعد نصف عام من العلاج بدأت السَّير مجدداً.
في سنواتي الأخيرة في المدرسة الثانوية كان من عادتي التَّجادل مع أساتذتي، أحياناً حول موضوع كنَّا بصدد مناقشته، وأحياناً أخرى بهدف الوقاحة فقط -لا أستطيع احتمال من يظنون أنهم يفوقون الجميع ذكاء، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك. في المدرسة أخذت أنسجم مع اللا مبالين من الأولاد، بدأت أتسكع مع المشاغبين، والحياة بدأت تتخذ أبعاداً جديدة. انخرطت في الرياضة، على الرغم من أن الأطباء حذروني من ممارستها. يئس الطب مني وأنا تخليت عنه. ازددت قوة وصرامة.
انتقلت بعد المدرسة إلى مدينة س. للدراسة في الكلية، مكان مهيب، وتقدمت للحصول على منحة حكومية. لم يرغبوا بقبول وثائقي:
"من أين أنت يا بني؟"
"من القرية س".
"هل أنهيت المدرسة بنيلك الميدالية الذهبية؟"
"لا".
"الفضيَّة؟"
"لا".
"إذن ماذا تريد منَّا؟"
"أن أدرس!"
وهكذا درست على نفقتي الخاصَّة. حصلت على الحدّ الأدنى من الدَّرجات بصعوبة. أسعد أيام حياتي. لكن لاحقاً، بعد نصف عام شعرت بالخيبة: تظاهر الطلاب بأنهم يدرسون وحسب، وحسب المدرسين أنهم تظاهروا بالتَّدريس. توقَّفت عن حضور الدُّروس. ونجحت في كل شيء، لكن بشقِّ الأنفس. استمتعت بوقتي. تسكَّعت مع المعجبين بموسيقى الروك والموسيقيين. كان الأمر مسلياً. لم أملك مالاً، لكن كان مسلياً. سوف لن تعود الأمور أبداً إلى سابق عهدها مجدداً.
أنهيت دروسي. لم أحاول البحث عن عمل في مجال تخصصي (التَّسويق). لم يكن العمل الروتيني مناسباً لي وإلا لكنت فتكت بجميع زملائي مع انقضاء يوم العمل.
توفي والدي عندما كنت في العشرين من عمري (لم يسعني التَّحدث عن الأمر إلا بعد مضي عشر سنوات). انقضت أيامي الرَّغيدة. كنت أؤدي أعمالاً صغيرة مختلفة هنا وهناك منذ أن بلغت الثالثة عشرة من عمري تقريباً، لكن في ذلك الوقت حقاً كان عليَّ البدء بجني المال. عملت في السُّوق. بعت منتجات هيربالايف لمدة سنة، سلبت من النَّاس نقودهم بالغش. أسست تجارتي الخاصَّة مع صديق. اقترضت الكثير من النقود وخسرت الكثير. اختفى صديقي. لكني نجوت. حدث هذا عام 1996.
عملت كموظَّف إداري في نوادي الكمبيوتر، ومن ثم مديراً. بدأت أقامر. احترفت لعب ألعاب الفيديو عبر شبكة الانترنت طوال أربع سنوات. شاركت في المنافسات، أصبحت بطل اللعبة في أوكرانيا. سافرت لبعض الوقت. أسست فريق اللعب خاصتي وموقعي الإلكتروني الخاص، استقطبت من حولي أناساً يشبهونني في الميول والأفكار، والآن أنا قائد حركة المقامرة المشروعة في القِرم. كنت خلال السنة والنصف الماضية منشغلاً في تهيئة أكبر مركز للإنترنت في سيمفيربول. فعلتها. التجارة جيدة.
عندما كنت في العشرين من عمري رغبت بالحصول على الكثير من المال. لم أملك منه شيئاً، وبشكل ما حسبي أني لم أتمكَّن من كسب أي مبلغ من النقود. مع بلوغي عامي الثلاثين تغيرت نظرتي إلى العالم كلياً، ولم يعد المال على قدر كبير من الأهمية في منظومتي الأخلاقية، لكن حصلت عليه... أظن هكذا يتعين على الأمور أن تكون. لا أعرف.
القليل عن حياتي الشَّخصية: أعيش مع المرأة نفسها منذ مدة تزيد على عشر سنوات. نحن متزوجان. ولدي طفلين صغيرين منها. أحبهم جميعاً.
لم أحلم أبداً بأن أصبح مخرجاً سينمائياً. لكني أحببت الأفلام منذ الصِّغر، الأفلام الجيدة. وكلما تقدَّمت في السِّن، كلما علمت نفسي بنفسي أكثر عن الأفلام، وكلما انصقل ذوقي السينمائي أكثر. وكلما نضجت أكثر كلما ضاقت دائرة الناس الذين يمكن أن أتحدث معهم عن الأفلام. اليوم لم يبقَ منهم سوى شخصين أو ثلاثة.
لطالما قرأت الكتب، الكثير من الكتب. في المدرسة كتبت المقالات. ولطالما حصلت مقالاتي على أعلى الدَّرجات. وبعد أن انخرطت في المقامرة، بدأت بكتابة المقالات عنها، تعاظمت أفكاري في داخلي، لم أستطع استبقاءها. وبحسب قول ميخائيل ميخائيليتش زفانيتسكي الذي أُحب: "الكتابة مثلها مثل التَّبول، يجب عليك أن تفعلها في الوقت الذي تفقد فيه الإرادة لحبسها". أنا ما عدت أملك الإرادة لحبسها، وقد امتلكت الإرادة للكتابة. في البداية، انبثقت كلها خاطئة نوعاً ما، ولو أنها كانت مسلية. بعد كتابة حوالي عشر مقالات، كنت قد صقلت تقنيتي وعثرت على أسلوبي الخاص. كتبت عدداً من القصص أو المقالات-لا أعرف حقاً بما أسميها، الآن أنا أؤلف كتاباً.
أرغب بإخراج الأفلام، أفكاري تتعزز مجدداً، وحسب الورق أنه ليس معبراً كالشَّريط السينمائي. أسعى للالتحاق بدورة لتدريس الإخراج. تبدو كما لو أنها دورة جيدة للغاية. إن لم أتمكن من الالتحاق بها عندئذ سوف أواصل طريقي بأية حال، بنفسي دون أي استعداد مسبق-سوف لن تكون المرة الأولى. لا أحب غريبينتشيكوف كثيراً، لكنه قال ذات يوم شيئاً مثيراً للاهتمام رداً على سؤال حول تعليمه الموسيقي: "ثلاثون عاماً من الإصغاء إلى الموسيقى وعشرون عاماً من عزفها". أشاهد الأفلام منذ ثلاثين عاماً-حان الوقت للتحرك.
كلب
عندما كنت طفلاً رغبت باقتناء كلب. كلب الراعي الألماني. قطعاً كلب الراعي الألماني. رأيتهم كثيراً في الأفلام، وكان يوجد في قريتنا عدد منها. أردت أن يكون عندي كلبي. لأصحبه في نزهة، لأدربه. لأمشي على امتداد الشَّارع وأجذب انتباه الجميع. أردته أن يطيعني، أردت أن نحب بعضنا البعض.
كنت قد اقتنيت كلباً في السَّابق. لكنه كان كلب العائلة أكثر مما هو كلبي الخاص، ليس كلبي حقاً. حمل اسماً ليس بطولياً على الإطلاق-توزيك. كان كلباً هجين أسود، متوسط الحجم، ذات يوم دخل حديقة منزلنا. كان من الواضح أن توز (كما دعوته لأجعله يبدو جدياً أكثر قليلاً، في نظري غالباً) مرَّ بوقت عصيب-كان بوسعك أن تلحظ أنه تعرَّض للضَّرب وأسيئت معاملته كثيراً. أمضى أسبوعه الأول معنا داخل وجاره، ولم يخرج حتى ليأكل. كان في غاية السَّعادة لأن ما من أحد كان يؤذيه وفضَّل السكينة والهدوء.
لكن لاحقاً توزيك اعتاد علينا، جميعنا أحببناه، كنت في التَّاسعة أو العاشرة من عمري تقريباً في ذلك الحين. صحبته في نزهات في الغابة، في الحقول. جعلته يسير على حبل. في البيت كان مقيداً إلى سلسلة، لكن ليلاً أفلتناه وركض في أرجاء الحديقة، حتى في الشارع ولم يزعج أحداً. كان ذكياً بحق، مطيعاً وسهل المراس لكن حياته السَّابقة كانت قد خلَّفت أثرها عليه. يقولون إن تجربة النَّاس الحياتية يمكن أن تقرأ في وجوههم. وهذا صحيح. وحياة الكلب يمكن أيضاً أن تُقرأ في عيونه. عينا ذلك الكلب الهجين الأسود ظلتا حزينتين إلى الأبد.
مرت بضع سنوات، وذات صباح اعتيادي أيقظتني أمي، جلست على طرف سريري وقالت لي إن توزيك قتل. كانوا يطوفون في الأنحاء يطلقون النَّار على الكلاب الشَّاردة، وقد قتلوه، في الصَّباح الباكر في الشَّارع، تماماً عند باب منزله. اقترحت أمي أن أبكي قليلاً، فقد يمنحني بعض الارتياح، لكني لم أستطع. لم أتمكن من تصديق الأمر. لا، عرفت أنه قتل، لكن بطريقة ما لم أصدق ولم أفهم الأمر.
هذا ما هو عليه الأمر دوماً. أحياناً دوماً يجب أن يمر بعض الوقت بين اللحظة التي تبلغ فيها بنبأ وفاة شخص تحبه ولحظة تفهُّمك وشعورك بالفقد. لقد حدث لي بضع مرات. عندما بلغت عامي العشرين جاء رجل وقال لي إن والدي فارق الحياة، وكان أول إحساس انتابني، وملأ عقلي تماماً: "هذا ليس ممكناً". وحتى بعد ساعة، عندما رأيته ممدداً هناك كما لو أنه كان نائماً، لم أشعر بالخسران. وعندما حملوه خارج المنزل في نعشه في اليوم التالي، في مكان ما شعرت بألم حاد، لكن لم يكن هناك من لوعة تستحوذ علي. المرة التالية التي شعرت فيها بالألم البليد كانت عندما رجل في المقبرة، بعد طلبه إلى العائلة أن تودع الراحل، أعطى التعليمات بإغلاق النعش، وهم بدؤوا يطرقون، بضربات رتيبة، رتيبة للغاية على الغطاء الذي ثبتوا فيه المسامير استعداداً سلفاً. في القبر السحيق، كان حفَّارو القبور قد تركوا زجاجة فارغة سبق أن شربوها، ملقاة ومنسيَّة.
بدا كما لو أن كل شيء كان يحدث في حلم وردي. كما لو أنه لا يحدث لك. السَّهر في مقصف العمال، الفودكا التي لا تسكرك، وكل هؤلاء الناس، متفرجون متعاطفون أو عرضيون، وكل أنواع الأقارب.
من ثم في وقت متأخر من المساء، عندما كان كل شيء قد هدأ، عندما لم يبقَ إلا أفراد العائلة المقربين في المنزل، عندما أنهيت عمليات التنظيف وكنا نستعد للذهاب إلى النَّوم بعد اليوم العصيب، في مكان هادئ على الشُّرفة، في الظُّلمة، خلف حافَّة حلقة الضُّوء التي ألقاها مصباح الشَّارع في الحديقة، جلست على مقعد محمول صغير. كنت مرهقاً للغاية وجلست في صمت، أحدِّق في الظُّلمة. من ثم أدركت أني كنت أجلس في المكان نفسه حيث اعتاد والدي الجلوس. كنت أجلس على مقعده الأثير، الذي صنعه بنفسه. من ثم فهمت بوضوح وبشكل صريح أنه رحل. شعرت به مادياً-ها هو مكانه، ها هو مقعده، لكنه رحل، وهو ليس بعائدٍ قط. كان مخيفاً أن تشعر بهذا الفراغ، هذا السَّواد. وشرعت أبكي بصمت، ببطء، بالكاد أحدث صوتاً. كان ابن أخي البالغ من العمر ثماني سنوات واقفاً بالقرب ولاحظ بكائي. حاول مواساتي كما هو ديدن الأطفال-بدأ يربِّت على رأسي. أيضاً دون أن يأتي بنأمة. وهكذا جلست على المقعد محني الرأس، بصمت أبكي ووقف قربي، وبصمت ربَّت على رأسي.
بعد وفاة توزيك، مرت سنة تقريباً، وأقنعت والديَّ أن يجلبا لي كلباً جديداً. كلب الراعي الألماني! بمناسبة عيد ميلادي الثَّاني عشر، ذهبت مع والدي إلى البلدة واشترينا جرواً من سوق الحيوانات، هجين بين الراعي الألماني وكلب الراعي القوقازي. كان الجرو صغيراً، مرَّ أسبوع واحد على ولادته، بالكاد استطاع أن يزحف ولم يأكل شيئاً إلا لماماً، وبسهولة احتوته راحة يدي الصَّغيرة، لم يكن لديه وثيقة سجل للسلالة، لكن ثمنه لم يتجاوز خمسة عشر روبلاً. في الليل، صرخ وزحف على أرضية غرفة نومي، إلى أن طفح الكيل بأمي فجاءت ووضعته في سريري، حيث دفَّأ نفسه وغطَّ في النَّوم. في البداية أطعمت الجرو بغمس إصبعي في الحليب ودسه في فمه، لما كان لا يزال لم يتعلم لعق الحليب. منحنا الكلب الصَّغير اسم ديك.
نما الكلب سريعاً. كان قوياً وفظاً وأخرق، ومثل جميع الجراء، أحبَّ اللعب. عندما كبر ديك، شعرت بالخيبة بعض الشَّيء: الكلب الهجين هو كلب هجين، وعلى الرغم من أنهم يهجنون كلب الراعي الألماني مع القوقازي ليحاولوا الحصول على أفضل ما في كلا السلالتين، لم يبدُ كلبي شبيهاً بأي من الصُّور الموجودة في الكتاب الصَّغير عن الكلاب الذي استعرته مرة. لفترة أزعجني الأمر حقاً، لكن أخيراً تغلب حبي للكلب على شعوري بما لديه من عيوب.
نما كلبي كبيراً وقوياً. كساءه الأسود المحمر جعله يبدو مثل كلب الراعي الألماني، لكن عظامه الجسيمة كانت قوقازية بلا ريب، كما كانت أذناه، اللتان تدلتا عند طرفيهما، وذيله المجعد قليلاً. أصبح ديك مرتبطاً بي أشد الارتباط وأنا به كذلك. مشينا كثيراً، درَّبته-تعلَّم القيام ببضعة أمور، تلك التي على الكلب العامل أن يكون قادراً على فعلها. على الرغم من أنه تمتع بشخصية متمردة في الوقت نفسه. كانت غريزة الصيد لديه تظهر دوماً كلما رأى دجاجة، بطة، أو فريسة مشابهة، ما أدى إلى نزاعات لا تحصى مع أصحاب مثل هذه الحيوانات المخربة، بما في ذلك والديَّ.
عادة صحبت ديك إلى الغابة القريبة من قريتنا، على الجانب الآخر من الحقل، أعلى التَّلة. كنا نسير بمفردنا أو أحياناً مع أصدقائي، الذين جلبوا كلابهم-ولو أن ما من واحد منهم كان يتمتع بجمال كلبي. كان مسلياً أن تتسكَّع مع الآخرين، لكني فضَّلت السَّير بمفردي في الغابة مع كلبي. كانت لحظات عصيَّة على النسيان. عندما يبحث عنك، بعد أن تكون قد تعمدت التأخر عنه واختبأت في الأجمة. يبحث عنك ويجدك. وكم تسعد عندما تجدان بعضكما البعض ثانية بعد مثل هذا الفراق القصير! الكلب سعيد لأنه وجد صاحبه، وصاحب الكلب سعيد لأن لديه مثل هذا الكلب الذكي، وأنتما كلاكما سعيدين لأنكما تحبان بعضكما البعض وأنتما معاً من جديد. أو كم هو مثير عندما تصادف أرنباً برياً يجلس بهدوء حتى اللحظة الأخيرة ثم ينطلق من تحت قدميك بالذات، وأنت تشاهد كلبك غير العملي في الظاهر يتحوَّل فجأة إلى سهم، باسطاً أذنيه، ويصرخ قليلاً، مندفعاً خلف الحيوان، وينهزم تدريجياً.
كم جميل هو السَّير في يوم خريفي ندي، في الغسق الطويل المضيء عندما لا يوجد أحد في الجوار، يفوح برائحة الخشب المتعفِّن، وفي الجو ضباب رقيق.
الشِّتاء أيضاً جيد للسير، عندما يهطل الثَّلج، نادراً جداً في نواحينا، عندما ترى آثار الأقدام، خطواتك وتلك التي للآخرين، عندما يتردد صوتك ويحمل نفسه بعيداً في المسافة، عندما تصرخ بكل ما تملك من قوة: "ديك، تعال هنا!" من ثم تسمع خبط براثنه متبوعة بأنفاسه، ثم ترى كلبك يهرع نحوك، فينهمر الثَّلج عليه من الأغصان الخفيضة. وفي أمسية صيفية، كم رائعة هي العودة من النزهة والهواء مفعم بالصَّوت ويعبق برائحة المطر الموعود، وعندما تخرج من الغابة فجأة تعي همس الأوراق المرتفع للغاية وتدرك إنه المطر، وأنه بدأ، وهو يتبعك عبر الغابة.
وتبدأ بالجري بأسرع ما تستطيع عبر الحقل، وكلبك يجري معك، ملتفتاً برأسه نحوك، وفي منتصف الطريق إلى البيت يدركك المطر. وعندها تسيران إلى البيت معاً، وتأخذه إلى طوقه، ويجن جنون جميع الكلاب في الشارع، وكلبك يجيب بنباحه الهادر، ويمكنك بالكاد أن تكبحه، وأنتما متعبان وسعيدان. ثم تعطيه بعض الماء، وتصبه من الإبريق في قدره، من ثم تجلب له العشاء. تغطان في النَّوم سعيدين. في صباح اليوم التالي تذهب إلى المدرسة، يتبعك الكلب إلى البوابة وهو يجر سلسلته، وكلاكما تعلمان أنه في المساء سيكون هناك نزهة أخرى وسوف تكونا معاً ثانية وسوف تكونان سعيدين ثانية.
الطفولة هي زمن سعيد. أشكر الله لأني حظيت بطفولة سعيدة، التي فيها أكثر اللحظات دفئاً والأعز إلى قلبي هي تلك اللحظات التي أمضيتها في تنزيه كلبي.
لكن عندئذ الطفولة انتهت تدريجياً، والسير مع الكلب تحول إلى واجب ممل، أو عذر للذهاب لتدخن أو لتلعب الورق مع الأولاد في الغابة. في الصيف، كرست من الأمسيات لأصدقائي ولكرة القدم عدداً أكبر مما كرست لأخذ كلبي في نزهة. وكلما رآني أقترب من البوابة، كان ديك يقفز من وجاره وفي عينيه أمل بأننا سوف نذهب في نزهة، لكن غالباً كل مرة كان مخيباً. أولاً، توقَّفت دوماً، داعبته واعتذرت أننا لسنا بذاهبين في نزهة ذلك اليوم، وكان يلعق وجهي ثم نفترق. لاحقاً، كنت أربِّت على رأسه سريعاً قبل الخروج، ولاحقاً كنت فقط أمر به. كلما تقدمت في المدرسة أصبحت نزهاتنا أكثر ندرة، وقل الوقت الذي كرسته لكلبي، وسريعاً النزهات توقَّفت كلياً. وجدت اهتمامات جديدة، أصدقاء جدد، والكلب تلاشى في الخلفية، مثل زوجة تستمر بالعيش معها لكنك تكف عن ملاحظتها.
لاحقاً عندما أنهيت المدرسة ذهبت لأدرس في المدينة وفقط رأيت ديك مرة أسبوعياً. كنت أداعبه عند وصولي، أحياناً وأنا في سبيلي إلى المغادرة. هل كنت لا أزال أحبه؟ بالتأكيد أحببته، لكن كان ذلك الحب قد تحول سلفاً إلى عادة، كما تحب المسنين. كان ديك الآن قد بلغ من العمر عشر سنوات، وقد أخذ يهرم. هل كان لا يزال يحبني كما عهد أن يحبني في السَّابق؟ أظن ذلك. كانت أمي هي من اعتنت به في تلك السنوات الأخيرة-تطعمه وتخرجه لقضاء الليل في الفناء أو في الشَّارع-لكن مع ذلك، الكلب يختار معلماً واحداً فقط، ويظل مخلصاً له حتى النهاية. بدأ ديك يتوعَّك، ثم أخذت قائمتاه الخلفيتان تلتويان تحته، كان نادراً ما ينهض، وعانى من الروماتيزم. تمكنت عائلتي من محاربة المرض (الذي بالمناسبة عانيت منه في طفولتي) وبدأنا نحقنه بالدواء الضروري. تحسَّن ديك وأصبح أقوى واستطاع أن يعيش سنة أخرى ونصف.
احتضر طويلاً وتألم قبل أن يموت. بينما كنا نحاول أن نقرر فيما إذا نضعه لينام أم لا، انتهى كل شيء. عدت من المدينة، وضعته في صندوق كبير وجررته على عربة معدنية لأدفنه. في سنيه الأخيرة، ذوى ديك وانكمش إلى نصف حجمه الأصلي تقريباً، لكن مع ذلك كان ثقيلاً للغاية.
دفنته بنفسي في بقعة أرض مهملة تلك التي كانت تتحول ببطء إلى مكب للنفايات، قرب الطريق الذي يقود إلى الغابة-نفس الطريق الذي لطالما أحببنا السير عليه. حفرت حفرة، وضعت الكلب فيها وبدأت أدفنه. لم يكن لدي شيء لأغطيه به، وبعد أن حط أول رفش من التراب على خطم الكلب توقَّفت. كان قاسياً. لم أتمكن من فعلها. بعد الرفش الثَّاني طفرت الدموع من عيني. عندما غطى التراب الكلب، عندها أصبح الأمر أسهل. ما كنت أبداً لأظن أن دفني لكلبي سوف يكون أكثر قساوة من دفن والدي.
يقولون إنه ما من أناس سيئين، أفعال سيئة فقط. وهذا صحيح. هناك على الأقل مقدار ضئيل من الخير في كل شخص. يدعى اللطف. وكلما كان الشَّخص أكثر لطفاً كلما كان أفضل. كل هذا اللطف مغروس فينا منذ الطفولة. إنه في رقَّة أمهاتنا وأيدي آبائنا، إنه في أصدقائنا، إنه في الحكايات الخيالية والكتب. إنه في الرسوم المتحركة التي نشاهدها. في الماموث الصَّغير الذي يسبح نحو أمه في الجليد الطافي هناك لطف أكثر مما يوجد في الجمعيات الخيرية كلها مجتمعة! واللطف أيضاً هو حب. وليس فقط الحب الذي تكنُّه لأهلك، أو لأقربائك، لكن أيضاً للحيوانات. لا سيما الحيوانات المنزلية، لا سيما حيواناتك الأليفة.
وأفضل الأمور أن تحب كلباً، وأن تمتلك كلباً يحبك. القطط ولا سيما الببغاوات-ليسوا مؤهلين للحب. إنهم مؤهلون للحياة، بالتأكيد، لكن ليس للحب. الحب بالنسبة لكلب هو شديد الشَّبه من حبك لامرأة. والدتك يمكنها أن تحبك، لكنها أيضاً يجب أن تحب والدك، أخوتك وأخواتك، والدتها ووالدها، وربما أيضاً جيرانك، العم بيتيا، ولو أن هذا الأمر لا يعنيك... لكن الكلب سوف يحبك أنت فقط، وسوف يكون مخلصاً لك أنت فقط. ولن يطلب شيئاً بالمقابل فيما عدا حبِّك.
يا إلهي، كم أرغب أن أنظر في تلك العينين لمرة واحدة أخرى فقط.
ترجمها عن الروسية د. وليم بلاكر وهو أكاديمي ومترجم متخصص في الأدب الأوكراني والبولندي والروسي. ترجمته للأدب المعاصر الأوكراني ظهرت في إصدارات عديدة. نشرت هذه القصص لأول مرة باللغة الروسية من قبل Laurus Press in Tales 2015.
ترجمتها عن الإنكليزية أماني لازار.